فصل: قال المقريزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير في البداية والنهاية:

قال الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في مقام الخلة:
ويقال: الخليل الذي يعبد ربه على الرغبة والرهبة، من قوله: {إن إبراهيم لأواه حليم} [التوبة: 114] من كثرة ما يقول: أواه، والحبيب الذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة، ويقال: الخليل الذي يكون معه انتظار العطاء، والحبيب الذي يكون معه انتظار اللقاء، ويقال: الخليل الذي يصل بالواسطة من قوله: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75] والحبيب الذي يصل إليه من غير واسطة، من قوله: {فكان قاب قوسين أو أدنى} [النجم: 9] وقال الخليل: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [الشعراء: 82] وقال الله للحبيب محمد: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2] وقال الخليل: {ولا تخزني يوم يبعثون} [الشعراء: 87] وقال الله للنبي: {يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه} [التحريم: 8] وقال الخليل حين ألقي في النار: «حسبي الله ونعم الوكيل» وقال الله لمحمد: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] وقال الخليل: {إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الصافات: 99] وقال الله لمحمد: {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى: 7] وقال الخليل: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء: 84] وقال لمحمد: {رفعنا لك ذكرك} [الشرح: 4] وقال الخليل: {واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام} [إبراهيم: 35] وقال الله للحبيب: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33] وقال الخليل: {واجعلني من ورثة جنة النعيم} [الشعراء: 85] وقال الله لمحمد: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] وذكر أشياء أخر، وسيأتي الحديث في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني سأقوم مقاما يوم القيامة يرغب إلى الخلق كلهم حتى أبوهم إبراهيم الخليل، فدل على أنه أفضل إذ هو يحتاج إليه في ذلك المقام، ودل على أن إبراهيم أفضل الخلق بعده، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعده لذكره. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}.
قال الزمخشري: الإشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت فقط في السّورة، أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عرفة: بل الإشارة إلى ما قبله يليه وهي الرسل المفهومة من قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} قال ابن عرفة: فهذا التفضيل إما مطلقا أي بعضهم أفضل من بعض مطلقا، أو من وجه دون وجه، فبعضهم أفضل من بعض في شيء والمفضول في ذلك أفضل من الفاضل في شيء آخر، فهل هو كالأعم مطلقا أو كالأعم من وجه دون وجه، والظاهر الأول.
وما ورد في الحديث: «لا تفضلوني على موسى ولا ينبغي لأحد أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى» فلا يعارض هذا لأن الآية اقتضت تفضيل بعضهم على بعض من غير تعيين الفاضل من المفضول.
قيل له: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق؟
فقال: بأن ذلك يعتقده الإنسان ولا يقوله بمحضر الكفار لئلا يقعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بتنقيص فيتركه سدّا للذريعة، أو يجاب بأنه تواضع من النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الغزالي كقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».
وأجاب القاضي عياض في الإكمال عن معارضة حديث نوح لحديث: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وحديث: «لا تفضلوا بين الأنبياء» مع حديث: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».
أحدها أن يكون قبل إعلام الله له أنه أفضل ولد آدم أو يكون على طريق الأدب والتواضع، أو المراد: لا تفضّلوا بينهم في النبوة وإنّما تفضيلهم بخصائص خص الله بها بعضهم كما قال: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله} الآية.
قيل لابن عرفة: إنّ ابن عطية أخطأ في قوله هنا لأن يونس عليه السلام كان شابا وتشيخ تحت أعباء النبوة؟
فقال: لا شيء في مثل هذا.
قال ابن عرفة: وكون بعض الرسل أوتي ما لم يؤته النبي صلى الله عليه وسلم لا ينافي كون النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق لأن المفضول قد يختص بفضيلة هي ليست في الفاضل كما قالوا: إن أفضل الصحابة أبو بكر مع أن لبعضهم من الخصوصيات ما ليست في أبي بكر، وكذلك كون عيسى اختص بإحياء الموتى وموسى بالكلام لا ينافي كون النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منهم، وكذلك قوله في سورة النجم {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} وتكليم الله للرسل ليس بمعجزة، وكذلك رفع الدرجات مشترك بينهم، فلذلك لم يسنده إلى معين ولما كان إيتاء البينات والتأييد خاصا بروح القدس أسنده إلى عيسى.
والكلام هنا المراد به كلام الرحمة.
فإن قلت: وكل رسول أيّد بروح القدس وهو جبريل؟
قلت: عيسى اختص من ذلك بقدر زائد من صغره إلى كبره لتكونه من نفخ جبريل عليه السلام في فرج مريم وتكلّمه في المهد.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينات}.
قال الزمخشري: مشيئته قَصْدٌ وَإلجاءٌ لأنّ العبد عنده يستقل بفعله وفعله بإرادته فيقول: إنّه لا تتعلق إرادة الله تعالى بذلك الفعل.
قال ابن عرفة: وفي هذه الآية عندي حجة لمن يقول: إنّ العدم الإضافي تتعلق به القدرة لأن المعنى: ولو شاء الله عدم اقتتالهم.
فقيل له: فرق بين الإرادة والقدرة؟
فقال: قد تقدم الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة أو لا؟ والصحيح أنه اختلاف لفظي وأنَّه خلاف في حال.
فإن كان المقصود بها الإبراز من العدم إلى الوجود فليست مؤثرة، إن أريد به كون الشيء على صفة مخصوصة فهي مؤثرة، وإذا كانت مؤثرة فيه كالقدرة وقد تعلقت هنا بالعدم.
قال السكاكي: ومفعول شاء لا يحذف إلا إذا كان عدما أو أريد به العموم.
قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتلوا}.
قدم المؤمن لشرفه وإلاّ فالكافر أكثر وأسبق وجودا.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله} إما تأكيد، أو المراد بالأول جميع الخلق.
والمراد بهذا المؤمنون.
قوله تعالى: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
صريح في مذهب أهل السنة وهو ينعكس بنفسه، فكل مراد مفعول لقوله: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
وكل مفعول مراد.
ولقوله: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتلوا} فدل على أنه أراد اقتتالهم إذ لو لم يرده لما وقع. اهـ.

.قال السعدي:

فائدة:
كما يجب على المكلف معرفته بربه، فيجب عليه معرفته برسله، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة، منها: أنهم رجال لا نساء، من أهل القرى لا من أهل البوادي، وأنهم مصطفون مختارون، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف، وأن الله تعالى خصهم بوحيه، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله، ودلائل هذه الجمل كثيرة، من تدبر القرآن تبين له الحق. اهـ.

.قال المقريزي:

فصل في ذكر موازاة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا صلّى الله عليه وسلم ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي عليه السلام:
وقد أتى الله تعالى نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك، فإن قريشا لما كذبوه وبالغوا في أذاه وإهانته، دعا عليهم، فاستجاب ربه دعاءه فيهم وقبله، كما خرجه عبد الرزاق، أخبرنا إسرائيل عن إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع قريش ينظرون، فقال قائل منهم: ألا ترون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلائها، حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟
فانطلق أشقاهم فجاء به، حتى إذا سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ساجدا، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي الله عنها- وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلّى الله عليه وسلم ساجدا حتى نحّت عنه، وأقبلت عليهم تسبّهم.
فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم صلاته استقبل الكعبة فقال: اللَّهمّ عليك بقريش، ثم سماهم فقال: اللَّهمّ عليك بعمرو بن هشام، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد، قال عبد الله: والّذي توفّى نفسه، لقد رأيتهم صرعى يسحبون إلى القليب قليب بدر، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اللَّهمّ أتبع أهل هذا القليب لعنة: وسيأتي هذا بطرقه.
فانظر لمشابهة هذا الخبر ما أوتيه نوح من إجابة دعائه في هلاك قومه، وتأمل ما ميز الله تعالى به محمدا صلّى الله عليه وسلم من ذلك، فإن نوحا عليه السلام لما امتلأ غيظا من أذى المكذبين له، وعيل صبره، ابتهل إلى ربه تعالى يسأله أن ينصره، فقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} 54: 10، فهطلت السماء بماء منهمر، فكانت دعوته دعوة انتقام وانتصار.
ومحمد صلّى الله عليه وسلم دعا ربه لما قحطت الأرض فهطلت السماء بدعائه بما منهمر، أغاث الله به العباد والبلاد، فكانت دعوته رحمة وغوثا للأنام، كما كان صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وسيأتي خبر استسقائه بطرقه.
وقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم ليلا ونهارا، فلم يؤمن به إلا دون المائة، ما بين رجل وامرأة، وهم الذين ركبوا معه السفينة، ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم كانت مدة دعائه الناس عشرين سنة، فآمن به أمم لا يحصون، ودانت له جبابرة الأرض، خافت ملوكها ككسرى ملك فارس، وقيصر ملك الروم، والنجاشيّ ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وإقبال اليمن وملوك البحرين، وحضر موت، وهجر، وعمان، وغيرهم.
ودانت له بحمل الإتاوة والجزية: أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأكيدر، ودومة، لما أيده الله تعالى به من الرعب الّذي ينزله بقلوب أعدائه، حتى فتح الفتوح الجليلة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فأتوا طائعين راغبين، مصدقين له، مؤمنين بما جاء به، فأي كرامة أعظم، وأي منزلة أرفع من هذا؟
وقد خصّ نوحا عليه السلام بأن نحلة اسما من أسمائه تعالى فقال: {إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا} 17: 3، وخصّ محمدا صلّى الله عليه وسلم باسمين من أسمائه الحسنى، جمعهما له، ولم يشركه فيهما أحد، قال تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ من أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} 9: 128.
هذا مع ما خصه به تعالى من مزيد التشريف والتكريم، حيث خاطبه بصفة من صفات الرفعة والشرف، تقوم مقام الكنية، إذا يقول تعالى مخاطبا له صلّى الله عليه وسلم في كتابه العزيز: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [8: 64]، {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [5: 41]، {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [74: 1]، {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [73: 1].
ولم يخاطب سبحانه غيره من الرسل إلا باسمه، فقال تعالى: {يا آدَمُ} [2: 33]، {يا نُوحُ} [11: 46]، {يا إِبْراهِيمُ} [11: 76]، {يا مُوسى} [20: 11]، {يا يَحْيى} [19: 12]، {يا داوُدُ} [38: 26]، {يا عِيسى} [3: 55]، وكل ذي عقل سليم يرى أن الخطاب للرجل بكنية أجل وأعظم من دعائه وخطابه به من ندائه باسمه.
ولما رماه صلّى الله عليه وسلم المشركون بما رموا به من قبله من رسل الله تعالى منذ عهد نوح فقالوا: مجنون، وساحر، وشاعر، ونحو ذلك من افترائهم الّذي نزه الله عنه رسله عليهم السلام، احتمل صلّى الله عليه وسلم أذاهم، وصبر على تكذيبهم له، ثقة منه بأن الله تعالى تولى نصرته، وأنه وليه وظهيره، ولم يسلك مسلك من تقدمه من الرسل، في انتصارهم لأنفسهم، كقول نوح لما قال له قومه: {إِنَّا لَنَراكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ} [7: 60]، فقال مجيبا عن نفسه: {يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ} [7: 61]، وكقول هود لما قال له قومه: {إِنَّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ} [7: 66] فقال دفعا عن نفسه: {يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ} [7: 67]، وكما قال فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا} [17: 101]، فنصر نفسه بنفسه فقال: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [17: 102]، ولما قال المشركون لمحمد صلّى الله عليه وسلم: {أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ} [37: 36]، وقالوا: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [15: 6]، سكت صلّى الله عليه وسلم صابرا محتسبا.
فتولى الله تعالى نصرته بوحي يتلى على مر الأيام إذا يقول: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ} [36: 69] {وَما يَنْبَغِي لَهُ} [36: 69]، وإذ يقول الله تعالى: {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [68: 2]، وكذلك لما قالت قريش: {إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [16: 103]، {وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [25: 4]، أعرض عنهم امتثالا لأمر ربه تعالى، إذ قال: {فَأَعْرِضْ عَنْ من تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا} [53: 29]، فأنزل الله تعالى براءته من ذلك، ودافع عنه ونصره، إذ يقول سبحانه: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [25: 6]، وإذ يقول: {نَزَلَ به الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ من الْمُنْذِرِينَ} [26: 193- 194]، في آيات أخر، ولهذا المعنى مزيد بيان فيما يأتي.
وأما إبراهيم عليه السلام: فإن الله تعالى اختصه بمقام الخلّة، فقال تعالى: {وَاتَّخَذَ الله إِبْراهِيمَ خَلِيلًا} [4: 125]، وكسّر عليه السلام أصنام قومه التي كانت آلهتم التي يعبدونها من دون الله غضبا لربه تعالى، وحجبه من نمروذ بحجب ثلاثة، وقصم عليه السلام نمروذ ببرهان نبوته فبهته، وبنى عليه السلام البيت.
وقد آتى الله تعالى نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم ذلك كله بمزيد شرف وأجل تكريم، فالخلة مقامه صلّى الله عليه وسلم، فيها أكمل مقام، ثبت من طرق عديدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله. وقد ثبت في صحيح مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة، ومن طريق أبي مالك عن ربعي بن خراش، عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حتى يزلف لهم الجنة، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى أبيكم إبراهيم خليل الله، قال: فيقول إبراهيم عليه السلام: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الّذي كلمه الله تكليما، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى عليه السلام: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدا صلّى الله عليه وسلم فيقوم، فيؤذن له... وهذا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلم أعطى أعلى من مقام الخلة، لأنه رفع له الحجاب، وكشف له الغطاء، ولو كان خليلا من وراء وراء، لاعتذر كما اعتذر إبراهيم عليه السلام، فإذا منصب المصطفى صلّى الله عليه وسلم هو الأعلى، من مفهوم قول إبراهيم عليه السلام: إنما كنت خليلا من وراء وراء ولم يشفع، فدلّ على أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء، مع الكشف والعيان، وقرب المكانة من حضرة القدس لا المكان، وذلك مقام المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
وقد تقدم في بعض طرق الإسراء، أنه صلّى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى قيل له: اسأل، فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا، إلى أن قال له ربه عز وجلّ: قد اتخذتك حبيبا، ولذلك كسّر الأصنام، فإن الّذي أعطاه الله تعالى نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم من ذلك، أفضل مما أعطاه إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلم رمى هبل من أعلى الكعبة، وأشار يوم فتح مكة إلى ثلاثمائة وستين صنما فوقعت وكسرت بأسرها بمحضر أهل نصرها، وذلك بإشارته صلّى الله عليه وسلم بقضيب ليس مما يكسر مثله عادة، وكان كسر إبراهيم عليه السلام للأصنام بمعول يكسر مثله عادة.
وكان كسره عليه السلام لتلك الأصنام التي كسرها بمعوله عند غيبة قومه عن أصنامهم، ونبينا صلّى الله عليه وسلم إنما كسرها وقريش الحماة الأبطال، تراها وهي تتساقط على وجوهها، وقد كانوا أمس يرونها آلهة تجلب لهم النفع وتردّ عنهم الضّرّ، فما انتطح في كسرها عنزان، ولا نطق بنصرها ذو لسان.
قال عبد الله بن عمر العمري، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما قد ألزمها الشيطان بالرصاص والنحاس، فكان كلما دنا منها مخصرته، تهوى من غير أن يمسها ويقول: {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا} 17: 81 فتساقط لوجوهها، ثم أمر بهن فأخرجن إلى المسبل.
وقد حجب الله تعالى نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم عمن أرادوا قتله بخمسة حجب: ثلاثة منها في قوله تعالى: {وَجَعَلْنا من بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمن خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 36: 9، وواحد في قوله تعالى: {وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا} 17: 45، والخامس في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا في أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} 36: 8، ويتبين لك معنى كون هذه الحجب إذا نظرت في الهجرة النبويّة، ومكر الذين كفروا به صلّى الله عليه وسلم وخروجه من منزله وهم قيام يريدونه فلم يروه.
وقد قصم صلّى الله عليه وسلم ببرهان نبوته الّذي أتاه مكذبا بالبعث بعد الموت- وهو أبي ابن خلف- وقد حمل عظاما باليا، وفركه ثم قال: {من يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 36: 78؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ} 36: 79، فانصرف عدو الله مبهورا.
كما بهت الّذي كفر- وهو نمروذ- إذ يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ في رَبِّهِ أَنْ آتاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قال إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قال إِبْراهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ من الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها من الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [2: 258].
وقد اختلف في هذا القائل، فقال مجاهد وقتادة: هو أبي بن خلف، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هو العاص بن وائل، وصححه الحاكم، وروى عن أبيه عباس: أنه عبد الله بن أبي ابن سلول.
وإبراهيم عليه السلام، وإن كان له في بناية البيت الحرام شرفا يميز به على من عداه، فإن أعظم ما في البيت: الحجر الأسود، وقد أعطى الله تعالى نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك، فإن قريشا لما بنت البيت في جاهليتها، اختلفت فيمن يضع الحجر، حتى أشير عليهم بتحكيم أول من يطلع عليهم، فطلع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحكموه، فوضع الحجر في رداء، وأمر كل قبيلة أن ترفع منه شيئا، ثم وضعه صلّى الله عليه وسلم بيده، كما تقدم ذلك بطرقه.
ثم انظر قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ من الْمُوقِنِينَ} 6: 75، يظهر لك أن الخليل عليه السلام كان وصوله بواسطة، وأين ذلك من قوله تعالى في حق محمد صلّى الله عليه وسلم: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى} 53: 8- 10.
وانظر قوله تعالى عن الخليل عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} 26: 82، تجد بينه وبين قوله تعالى لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} 48: 2 بونا كبيرا: ذلك طمع في المغفرة، وهذا غفر له بيقين.
وكذا قوله تعالى عن الخليل عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} 26: 87، مع قوله تعالى عن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم: {يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} 66: 8، تجده ابتدأ محمدا صلّى الله عليه وسلم بالبشارة قبل السؤال.
وكذا قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله} 8: 64 والخليل قال: {حَسْبِيَ الله} 39: 38، تجد بين المقامين بونا كبيرا.
وكذلك قول الخليل: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الْآخِرِينَ} 26: 84، مع قوله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: {وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} 94: 4، يظهر لك شرف مقامه، لأنه أعطي بلا سؤال.
وكذا قول الخليل: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} 14: 35، ومحمد صلّى الله عليه وسلم قيل له: {إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 33: 33 وفي ذلك تنبيه على علوّ مقام المصطفى ورفيع مكانته صلّى الله عليه وسلم.
وأما الذبيح: فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم حصل له من شق صدره المقدس ما هو من جنس ما أوتيه الذبيح، فإن الذبيح إسماعيل عليه السلام، صبر على مقدمات الذبح:
شد وثاقه، وتله للجبين، وإهواء أبيه بالمدية إلى منحره، فوفى بما وعد به من قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ الله من الصَّابِرِينَ} 37: 102.
وكان لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم من ذلك أوفى مقام من الصبر وأجلّ، لأن الّذي حصل من الذبيح إنما هو الصبر على مقدمات الذبح فقط، والمصطفى صلّى الله عليه وسلم صبر على شق صدره، واستخراج قلبه، ثم شقه، ثم استخراج العلقة، ثم غسله، ثم إطباقه، ثم وضعه، ثم إحاطة صدره.
وأين الصبر على مقدمات جز المنحر بالمدية، من الصبر على شق الصدر وإخراج القلب وشقه، فإن صبر الذبيح إنما كان على ما أصابه من صورة القتل لا على فعله، وصبر المصطفى صلّى الله عليه وسلم إنما كان على مقاتل عدوه، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، وأدل دليل على مقاساته صلّى الله عليه وسلم الألم في شق صدره قوله: فأقبل وهو ممتقع اللون أو منتقع اللون، ومعناه أنه صار كلون النقع، وهو الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، هذا يدل على غاية المشقة، فكان ابتلاؤه صلّى الله عليه وسلم بشق الصدر وما معه أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر عنه باعتبارين:
أحدهما: أنه ابتلي بذلك فصبر عليه وهو طفل صغير منفرد عن أمه ويتيم من أبيه.
والآخر: مقاساة حقيقة الشق للصدر والقلب، وغاية ما ابتلى به الذبيح التعريض بذبحه وبين المقامين في الصبر بون بعيد فتأمله.
وأمر آخر: وهو أن الذبيح توطنت نفسه على ما انتابه بقوله أبيه: {إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 37: 102، والرسول صلّى الله عليه وسلم فجئه ذلك البلاء العظيم على غفلة، فإنه أختطف من الأطفال وفعل به ما فعل، وأين حال من هو مع أبيه وقد أنذره بما يفعل به، ممن يختطفه من لا يعرفه، وينزل به ذلك البلاء العظيم، فإن البغتة أشد على النفس، والفجاءة أقوى رعبا.
وأما هود عليه السلام:
فإن الله تعالى نصره على قومه الذين عادوه إذ كذبوه بالريح العقيم، وقد أعطى الله سبحانه نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم أفضل من ذلك، فانتصر من أعدائه بالريح يوم الخندق، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها} 33: 9، فكانت ريح هود ريح سخط وانتقام: {ما تَذَرُ من شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 51: 42، وريح محمد صلّى الله عليه وسلم ريح رحمة، قال تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها} 33: 9، وقال حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما كان يوم الأحزاب، انطلقت الجنوب إلى الشمال، فقالت: انطلقي بنا ننصر محمدا رسول الله، فقالت الشمال للجنوب: إن الحرة لا تسري بليل، فأرسل الله عليهم الصّبا، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها} 33: 9.
وأما صالح عليه السلام:
فإن الله تعالى أخرج له ناقة لتكون حجة له على قومه، وآية لنبوته، لها شرب ولقومه شرب يوم معلوم، وقد أعطى الله سبحانه نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم من ذلك ما لم يؤت صالحا، وذلك أن ناقة صالح عليه السلام لم تكلمه ولا شهدت له بالنّبوّة، ومحمد صلّى الله عليه وسلم أتاه البعير الناد شاكيا إليه ما همّ به صاحبه من نحره.
خرج أبو بكر بن أبي شيبة من طريق إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبيري عن جابر رضي الله عنه قال: سرنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أظهرنا كأن على رءوسنا الطير، فأتاه جمل ناد، حتى إذا كان بين السماطين خرّ ساجدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: من صاحب هذا الجمل؟ فإذا فتية من الأنصار قالوا: هو لنا يا رسول الله، قال فما شأنه؟ قالوا: سقينا عليه منذ عشرين سنة وكانت به مشيخة، فأردنا أن ننحره فنقسمه بين علمائنا فانفلت منا، قال: تبيعونه؟ قالوا: لا، بل هو لك يا رسول الله، قال: أما فأحسنوا إليه حتى يأتي أجله. وسيأتي هذا الحديث بطرقه إن شاء الله تعالى.
وأما إدريس عليه السلام:
فإن الله تعالى قال في حقه: {وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا} 19: 57، والعلوّ من الأمور النسبية، فتارة يكون علوّ مكان، وتارة وتارة يكون علوّ مكانة، فعلوّ المكان:
مقام إدريس عليه السلام، وهو على ما روى الفلك الرابع، رفعه الله إليه.
وأما علو المكانة: فهو الّذي خص الله تعالى به المقام المحمدي، قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ} 47: 35، فهو سبحانه وتعالى منّزه عن المكان لا عن المكانة، وعلو المكانة أجلّ من علو المكان، وقد خصّ الله سبحانه نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم من علو المكانة بما لم ينله أحد غيره، قال تعالى: {وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} 94: 4، فرفع الله تعالى ذكره صلّى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا صاحب صلاة إلا ينادي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقرن تعالى اسمه الكريم باسمه صلّى الله عليه وسلم في توحيده والشهادة بربوبيته، في مشارق الأرض ومغاربها، وجعل ذلك مفتاحا للصلوات المفروضات.
روى عن ابن لهيعة، عن دراج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} 94: 4 قال: قال لي جبريل عليه السلام: قال الله: إذا ذكرت ذكرت معي. وقال عثمان بن عطاء الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما فرغت مما أمرني الله به من أمر السموات والأرض قلت: يا رب، إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد كرّمته، جعلت إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي؟ قال: أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله؟ أن لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرءون ظاهرا، ولم أعطها أمة، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي «لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم».
وأما يعقوب عليه السلام: فإن الله تعالى قال: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا في ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} 29: 27، فكانت الأسباط من سلالة يعقوب ومريم ابنة عمران من ذريته، والهداة منه كانوا، فعظم من الخير نصيبه، حتى قال تعالى في أولاده: {وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ من الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ من الْأَمْرِ} [45: 16- 17]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ في مِرْيَةٍ من لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ} [32: 23- 24].
وقد أعطى الله نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم من الخير أوفر الحظّ وأرفع الذكر، وأجزل النصيب، فجعل ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين، وجعل من ذريته الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، روي عن محمد بن حجادة عن عمران بن كثير عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: حسبك من نساء العالمين أربع: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم. وجاء من عدة طرق عن ابن عباس وأبي سعيد الخدريّ مرفوعا: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. وعن الشعبي عن أبي جحيفة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجنة غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد، فتمر وعليها ريطتان خضراوان. وقال حفص بن غياث عن العرزميّ عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجب: يا أيها الناس غضوا أبصاركم ونكسوا، فإن فاطمة بنت محمد تجوز الصراط إلى الجنة.
قال بشر بن إبراهيم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إنما سميت فاطمة لأن الله فطم من أحبها من النار. وقال علي بن عمر بن علي: إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك- وقال عمر ابن غياث عن عاصم عن عبد الله يرفعه: أن فاطمة أحصنت فرجها، فحرمها الله وذريتها على النار.
وأما ذرية يعقوب عليه السلام الذين هم بنو إسرائيل:
فإن الله تعالى سخط عليهم بسوء أعمالهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، وأنزل فيهم الكتاب، وجعل منهم القردة والخنازير، وقطعهم في الأرض أمما، وجعل الذين اتبعوا الحق فوقهم إلى يوم القيامة، فبان بهذا أن الّذي آتاه الله تعالى من الخير لنبيا محمد صلّى الله عليه وسلم أجل وأعظم مما أوتيه يعقوب عليه السلام، وكذلك تميز نبينا صلّى الله عليه وسلم على يعقوب في محنته، وذلك أن كلا منهما ابتلى بفقد ولده.
فأما يعقوب فإنه حزن على فقد يوسف حتى كاد يكون حرضا من الحزن، فإن حزنه كان حزن إيلاف ومضض واشتياق ووجد، بدليل قوله: {يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} [12: 84]، فأصابه بفقد ولد واحد من جملة اثنى عشر ولدا هذا الأسف، ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم فجع بوحيده من الدنيا، وقرّة عينه في حياته، فلم يجزع بل صبر واحتسب، ووفى بصدق الاختيار، مسلّما إلى ما سبقت به الأقدار، فقال صلّى الله عليه وسلم وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون. فكان سلوكه صلّى الله عليه وسلم في ذلك وفي جميع أحواله منهج الرضا عن الله تعالى، والاستسلام له فيما يقضي ويحكم، ولم يتأسف، بل رضى واستسلم، ففاق صبره صلّى الله عليه وسلم على صبر يعقوب عليه السلام، لفضل قوته وعلو مقداره ومكانته صلّى الله عليه وسلم.
وأما يوسف عليه السلام: فإنه فاق في الحسن على جميع الخلق، وقد بلغ نبينا صلّى الله عليه وسلم من ذلك ما لا غاية فوقه، وذلك أن يوسف عليه السلام قد ثبت أنه أوتي شطر الحسن، فزعم زاعم أنه عليه السلام اختص بالشطر من الحسن، واشترك الناس جميعا في الشطر الآخر، وليس كذلك، بل إنما أوتي شطر الحسن الّذي أوتيه المصطفى صلّى الله عليه وسلم، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم بلغ الغاية، وهو عليه السلام بلغ شطر الغاية، بدليل ما خرجه الترمذي من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصّوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا.
ويؤيد ذلك أنه صلّى الله عليه وسلم وصف بأنه كالشمس الطالعة، وكالقمر ليلة البدر، وأحسن من القمر، ووجهه كأن مذهبة يستنير كاستنارة القمر، وكان عرقه صلّى الله عليه وسلم له رائحة كرائحة المسك الإذخر، وقد تقدم ذلك بطرقه.
وقد قاسي يوسف عليه السلام مرارة الغربة، وامتحن بمفارقة أبويه، والخروج عن وطنه، وكان الّذي قاسي نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم من ذلك أعظم، فإنه اغترب وفارق أهله وولده، وعشيرته وأحبته، كما هاجر من حرم الله وأمنه، حيث مسقط رأسه مضطرا لا مختارا، فاستقبل البيت مستعبرا متلهفا حزينا، وقال: إني أعلم أنك أحب البلاد إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت، وخرج ليتأوّلها، فلما بلغ الجحفة أنزل الله عليه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ} [28: 85] وأراه الله تعالى رؤيا أزال بها الحزن عنه، كما أري يوسف عليه السلام رؤيا صدق تأويلها.
قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ} [48: 27]، فدخل صلّى الله عليه وسلم مكة آمنا، وصدق وعد الله له، كما جاء تعالى بأبوي يوسف تأويلا لرؤياه من قبل.
وقد ابتلى يوسف عليه السلام بالسجن توقيا للمعصية، إذ قال: {رب السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [12: 33]، وكذلك ابتلى نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم بالسجن في الشّعب وضيق عليه فيه أشد الضيق مدة ثلاث سنين، حتى صنع الله بكيد أضعف خلقه وتسليطها على صحيفة مكر قريش التي عقدوها في قطيعته صلّى الله عليه وسلم، فكان لنبينا من ذلك ما لم يكن ليوسف عليه السلام، لأن يوسف كانت محنته بالسجن من أجل أن امرأة العزيز دعته إلى نفسها فاستعصم، وكانت محنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإلجاء إلى الشّعب قطيعة من ذوي رحمه، لأنه دعاهم إلى توحيد الله تعالى، وترك عبادتهم الأصنام، وشتان بين هذين المقامين من البون.
وعلّم الله يوسف من تأويل الأحاديث- يعني عبارة الرؤيا- ولم يقص تعالى عنه سوى تعبير ثلاث منامات، ونقل عن نبينا من ذلك شيء كثير جدا، مما رآه ومما عبّره لغيره فجاء كفلق الصبح.
ومكن تعالى ليوسف في الأرض- يعني أرض مصر خاصة- ونبينا مكّن الله له ولأمته في الأرض كلها، وملك يوسف أهل مصر في زمن الغلاء، وقد ملك نبينا صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح جلة العرب وصناديد الحجاز وسمّاهم الطلقاء، فأحرز صلّى الله عليه وسلم خصائص يوسف عليه السلام وزاد عليها، ولهذا ترقى عليه ليلة الإسراء ما شاء الله.
وأما موسى عليه السلام:
فإن الله تعالى أيده بالعصا، واليد البيضاء، وتفجير الماء من الحجر، وقال تعالى: {وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا} 19: 52، ومقام المصطفى صلّى الله عليه وسلم في المناجاة أرفع، فإن موسى عليه السلام، إنما سمع الكلام والمناجاة على الطور، ومحمد صلّى الله عليه وسلم سمع الكلام وقد أسرى به، والملأ الأعلى فضله على الأرض.
فأما العصي الخشب الموات فإنّها تصير بإذن الله تعالى ثعبانا تتلقف إفك سحرة فرعون، ثم تعود إلى معناها، وخاصتها من مآرب موسى عليه السلام، وقد أتى الله تعالى نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم أعجب من ذلك، فإنه أشار بقضيب في يده يوم الفتح إلى الأصنام المشدودة بالرصاص شدا محكما إلى الكعبة فيما حولها، وعدتها ثلاثمائة وستون صنما، فكان إذا أشار إليها بالقضيب وقال: {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ} 17: 81 سقط الصنم وتكسر جذاذا، فكانت عصا موسى مسلطة على آلة آل فرعون، وقضيب محمد صلّى الله عليه وسلم سلّط على ما اتخذته قريش آلهة، وأين التسليط على الآلة، من التسلط على الآلهة؟
وأيضا فإن الله تعالى قال عن موسى عليه السلام: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ من سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} 20: 66 فسلط عصاه على ذلك التخيل، وقضيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم تسلط على أمر حقيقي، وأين الخيال من الحقيقة؟
وقد حنّ لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم الجذع اليابس، وخار، وهذا أعجب من حالات عصا موسى عليه السلام، فإن موسى إنما جعل النّبات حيوانا غير ناطق، ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم جعل النبات حيوانا ناطقا، فشارك موسى في قلب الأعيان على وجه أتم، لأن الناطق أتم من غير الناطق، وأبلغ في الأعجوبة إجابة الأشجار واجتماعها لدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما دعاها، ورجوعها إلى أمكنتها بعد أن أمرها.
وكان من معجزات موسى عليه السلام، أن يضرب بعصاه الحجر فينفجر منها اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط الاثنا عشر، وقد أيد الله نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم من ذلك بأعجب وأبدع وأغرب، فإنه بعث سهما ليوضع في عين كانت تبض بماء قليل، فلما وضع السهم فيها استخرج الماء بإذن الله تعالى من تخوم الأرض، وصارت معينا غرس عليها جنان، واشتق منها أنهار.
ونبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلم، وهذا أعجب من العجب، فإن نبع الماء من الحجر لم يزل معهودا مشهورا في العالم، بخلاف نبع الماء من بين أنامل ركبت من عظم ولحم ودم، فإن هذا لم يعط قط مثله إلا لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، فإنه كان يفرج بين أصابعه في مخضب فينبع من بين أصابعه الماء، فيشرب منها الناس ويستقون، وهم يعاينون ماء عذبا جاريا، يروي الأعداد الكثيرة من النّاس والخيل والإبل، ويملئون منه قربهم وأدواتهم، كما سيرد بطرقه إن شاء الله.
وأما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق وجازه بأصحابه:
فقد ورد أن بين السماء والأرض بحرا مكفوفا، تكون بحار الأرض بالنسبة إليه كالقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط، فعلى هذا يكون ذلك البحر قد انفلق لنبينا صلّى الله عليه وسلم حتى جاوزه ليلة الإسراء، وذلك أعظم وأفخم من انفلاق بحر القلزم لموسى عليه السلام.
وقد أوتي نظير ما أوتى موسى من ذلك: أن العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه، لما كان بالبحرين واضطر إلى عبور البحر، فعبر هو ومن معه من المسلمين، ولم يبتل لهم ثوب ببركة اتباعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما سيأتي ذكره إن شاء الله بطرقه.
وأما بياض يد موسى عليه السلام من غير سوء- وهو النور- فنظيره لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم أنه نور ينقل في الأصلاب، كما مرّ أنه كان نورا في جبهة أبيه عبد الله ابن عبد المطلب.
ولما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسيّ يدعو قومه إلى الإسلام، دعي له فسطع نور بين عينيه فقال: يا رسول الله! أخاف أن يقولوا مثله؟ فتحول النور إلى رأس سوطه، وكان كأنه شمعة مضيئة آية للمصطفى صلّى الله عليه وسلم، فكانت كاليد البيضاء، وصارت كعصا موسى التي ذكر في الأخبار أنها كانت تضيء.
وأما تفجير الماء من يده صلّى الله عليه وسلم فهو بياض معنوي، فأيّ يد بيضاء أغنى غناء وأبيض ماء من يد كان البحر في الإحسان دونها، والسحب تضاهي معينها؟
وقد ذكر أيضا أن عصا موسى عليه السلام هزم بها الألوف من قوم فرعون، وقد أتى الله تعالى نبينا صلّى الله عليه وسلم أعجب من ذلك، إذ تناول يوم حنين كفا من تراب أو حصى، ورمى به في وجوه هوازن، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إلا أصاب عينه شيء من ذلك، وولوا منهزمين.
وكان من كرامة موسى المناجاة، ولكنها عن ميعاد واستعداد، وكرامة المصطفى صلّى الله عليه وسلم بالمناجاة كانت على سبيل المفاجأة، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: بينا أنا. وأما قوله: فرج سقف بيتي، ولا أبلغ في المناجاة من ذلك، فقد حمل عنه صلّى الله عليه وسلم ألم الانتظار كما حمل عنه ألم الاعتذار في قول موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} 20: 84. ولا شك أن في منحه هاتين الكرامتين مزيد اختصاص وأجل كرامة.
وقد أتى موسى إلى فرعون بالعذاب الأليم، من الجراد والقمل والضفادع والدم، فقد أرسل الله سبحانه على قريش بتكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدخان، فكان آية بينة، ونعمة بالغة، قال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ} 44: 10- 11. ودعا رسول الله على قريش فابتلوا بالسنين، وسيأتي ذلك إن شاء الله بطرقه.
وقد أنزل الله تعالى على موسى وقومه المن والسلوى، وظلل عليهم الغمام، وقد أتى الله نبينا صلّى الله عليه وسلم أعظم من ذلك، فإن المن والسلوى رزق رزقهم الله كفاهم به السعي والاكتساب له، وقد أحل الله لنبينا وأمته الغنائم التي كانت محرمة على من قبلهم، وجعلها منة باقية لهم إلى يوم القيامة، وأي قدر للمنّ والسلوى في جنب غنائم كسرى وقيصر، والجلالقة والقوط والقبط وغيرهم ممن غنم المسلمون أموالهم وديارهم، وسبوا نساءهم وذراريهم، ومع هذا كله فإن الله تعالى أعطى أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم من جنس ما أعطى موسى وقومه من ذلك، فقذف لهم البحر لما كانوا مع أبي عبيدة في سرية- وقد أصابتهم المجاعة- حوتا يقال له: العنبر، أكلوا منه، وائتدموه نصف شهر بلا سعي ولا طلب.
وكان صلّى الله عليه وسلم يشبع النّفر الكثير من الطعام القليل واللبن اليسير، حتى يصيرون شباعا رواء. وكان موسى عليه السلام تنقلب له عصاه ثعبانا تتلقف ما صنعت السحرة، حتى استغاث فرعون بموسى وأخيه رهبة منه وفرقا. وقد أعطى نبينا صلّى الله عليه وسلم أخت هذه الآية بعينها، وهي أن جعل أبا جهل فرعون هذه الأمة احتمل حجرا، وأقبل يريد أن يرضخ به النبي صلّى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة، وقد عدت قريش ينتظرون ما يصنع، فلما سجد صلّى الله عليه وسلم، احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع مبهوتا منتقعا لونه من هول ما قد يبست يداه على حجره، فلما سأله قومه ما له قال: لما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل. لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.
وقد اختار موسى عليه السلام سبعين رجلا من قومه لينفذوا معه إلى ربه تعالى، فلما صاروا في البرية غلب عليه عليه السلام روح القرب، فأسرع إلى ربه وترك قومه، فقال له تعالى: {وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قال هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} 20: 83- 84، فعبّر عليه السلام عن قصده في العجلة بطلب رضى الله تعالى.
ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، أعظم الله شأنه في آيتين، أعلمه فيهما رضاه عنه، وأعطاه سؤله ومناه من غير سؤال منه في ذلك ولا رغبة تقدمت منه، فقال تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها} 2: 144، وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} 93: 5، فمنحه الله رضاه، وأعطاه مناه، في جميع ما يهواه ويتمناه، وغيره من الأنبياء سألوا وطلبوا رضا مولاهم، ومع ذلك فقد خصه الله تعالى مع الرضا بالرحمة والرأفة، فقال تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ من الله لِنْتَ لَهُمْ} 3: 159، وكان رقيق القلب صلّى الله عليه وسلم فأمر الله تعالى موسى بالملاينة لفرعون لما كان عليه من الغلظة، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} 20: 44، فذكر تعالى الملاينة، وأمر محمدا صلّى الله عليه وسلم بضدّ ذلك فقال تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 9: 73، لما خصّه به من الرحمة والرأفة واللين، كما قال تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} 9: 128.
وقد أكرم الله تعالى موسى بأن قال له: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} 20: 39، قال بعضهم: أحببت إليك عبادتي. وقال آخر: جعل الله بين عينيه نورا لا ينظر إليه أحد إلا أحبه. وقيل: أسكنت بين عينيك ملاحة تسبى بها من رأيته. وقد أوتي نبينا صلّى الله عليه وسلم من نظائر هذه الكرامة أشياء منها: أن الله تعالى أقسم بالضحى والليل إذا سجى، أنه ما ودعه وما قلاه.
ومنها أنه تعالى افترض على خلقه اعتقاد محبته صلّى الله عليه وسلم حتى جعل ذلك منهاجا إلى طاعته تعالى، ومفتاحا للقربة إليه، وسبيلا إلى الفوز بغفرانه ورحمته. قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} 3: 31، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 24: 54، وكيف لا يكون معظما مفضلا على جميع أنبياء الله ورسله، وقد أقسم تعالى بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} 15: 72.
قال أبو نعيم: حدثنا سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن جندب قال: اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى} 93: 1- 3، أي لم أتركك ولم أبغضك، {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ من الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} 93: 4- 5.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثني هارون قال: حدثنا جعفر، حدثنا ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: موسى صفيّ الله وأنا حبيب الله.
وأما هارون عليه السلام: فإن الله تعالى وصفه بفصاحة اللسان فقال: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا} 28: 34، وقد علم أن لغة العرب أفصح اللغات، ولنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم من الفصاحة ما يعرف من مارس كلامه، أنه أوتي فيها أعلى مقام، لم يصل إليه أحد من قبله وقد شارك هارون مع ذلك فيما ناله من بني إسرائيل، فإنه لما خلف موسى عليه السلام فيهم عند ما توجه لميقات ربه، افترقوا وتحزّبوا ونقضوا العهد، واستضعفوه وهمّوا بقتله، وعبدوا العجل فلم يقبل توبتهم حتى قتلوا بعضهم بعضا، كما قصّ الله تعالى ذلك في كتابه العزيز، فلقى نبينا صلّى الله عليه وسلم نظير ذلك من بني قريظة والنضير وقينقاع، فإنّهم نقضوا العهد وحزّبوا الأحزاب، وجمعوا وحشدوا، وأظهروا له العداوة بعد ما هموا بإلقاء الرحى عليه، لما أتاهم يستعين بهم في دية بعض أصحابه، فقام صلّى الله عليه وسلم بحربهم، وقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، وقسم أموالهم، فكان نظير استضعافهم لهارون استضعافهم للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، حتى لقد قال قائلهم: محمد يخندق على نفسه وأصحابه، ولا يستطيع أحدهم الخروج إلى الغائط، وهو يعدهم بملك كسرى وقيصر، فكان المسلمون كما قال تعالى: {وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} 33: 10، حتى أيده الله بجنوده، وجعل العاقبة له على اليهود والأحزاب، كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب.
وأما داود عليه السلام:
فخصه الله تعالى بتسبيح الجبال معه، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ} 34: 10، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} 38: 17- 19، فسخر الله تعالى الجبال والطير له بالتسبيح، وقد أعطى الله نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك من جنسه وزيادة، فسبّح الحصا في كفه، وفي يد من صدّقه واتبعه رفعة لشأنه وشأن مصدقيه، وقد سخرت الطير والبهائم العظيمة كالإبل والسباع العادية الضارية لنبينا صلّى الله عليه وسلم، كسجود البعير الشارد له، والذئب الّذي نطق بنبوته، وقد همهم الأسد لسفينة مولاه لما مرّ به ودله على الطريق، وأخذ الطائر خفه صلّى الله عليه وسلم وارتفع به ثم ألقاه، فخرج منه أسود سالخ!! وقد أوردت ذلك كله بطرقه.
وألين لداود عليه السلام الحديد، حتى سرد منه الدروع السوابغ، وقد لانت الحجارة وصمّ الصخور للمصطفى صلّى الله عليه وسلم، فعادت له غارا استتر به من المشركين يوم أحد ومال برأسه إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم، فليّن الله تعالى له الجبل حتى أدخل رأسه، وهذا أعجب، لأن الحديد تلينه النار، ولم نر النار تلين الحجر.
قال أبو نعيم: وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس، وكذلك في بعض شعاب مكة حجر أصم استروح صلّى الله عليه وسلم في صلاته إليه، فلان له الحجر حتى أثّر فيه بذراعيه وساعديه، قال أبو نعيم: وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه، ولانت الصخرة ببيت المقدس ليله أسري به كهيئة العجين، فربط بها دابته البراق، ويلمسونه الناس إلى يومنا هذا باق. قاله أبو نعيم.
وكان داود عليه السلام حسن الصوت، بحيث بات عدة ممن سمعه وهو يقرأ الزبور على ذكر، وقد شبه نبينا صلّى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه بمزامير داود، فقال: لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود، هذا، وما بلغ أبو موسى الحد، فإنه قال: لو علمت أنك تسمع لحبرته تحبيرا، فدل على أنه كان يقدر أن يتلو بنجي من ذلك.
وأما الموت من موعظة داود عليه السلام، فإن القوة في الأمة المحمدية أعظم منها في بني إسرائيل، فلهذا تفاوت حالها عند سماع الموعظة وعند تركها، ولذلك لم يمت داود لأنه كان قويا وهو الواعظ. وقد قال بعض الأمة المحمدية: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا أعلى ما بقوة مقامه.
وأمر آخر، وهو أن خلقا من هذه الأمة ماتوا في مجالس الوعظ كما هو معروف في كتب الأخبار، وقد تقرر أن كل كرامة لولي في علم أو عمل، فهي بالنسبة إليه كرامة، وإلى الرسول معجزة، وقد جاء في الحديث: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.
وأما سليمان عليه السلام:
فإن الله تعالى وهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وقد أعطى الله نبيّنا صلّى الله عليه وسلم خزائن الأرض، فأباها وردّها اختيارا للنقل من الدنيا، واستصغارا لها بحذافيرها، وآثر مرتبته ورفعته عند ربه تعالى على ما يغني، ورضي بالقوت اليسير، فكان له من ذلك أعظم ما لسليمان لعلوّ مقامه.
وقد سخر الله تعالى لسليمان الريح، فسارت به في بلاد الله، وكان غدوّها شهرا ورواحها شهرا، فأعطى الله سبحانه نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم أعظم من ذلك فأكثر، لأنه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وخرج به في ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، فدخل السموات سماء سماء، ورأى عجائبها ووقف على الجنة والنار، وعرض عليه أعمال أمته صلّى الله عليه وسلم، وصلّى بالأنبياء وبملائكة السموات، وخرق الحجب، ودلى له الرفرف الأخضر، وأوحى إليه ربه تعالى ما أوحى، وأعطاه خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، وعهد إليه أن يظهر دينه على الأديان، حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها إلا دينه، أو يؤدون إليه وإلى أهل دينه الجزية عن صغار، وفرض عليه الصلوات الخمس.
ولقي موسى عليه السلام وما له من مراجعة ربه في التخفيف عن أمته، وهذا كله في ليلة واحدة، فأيما أعجب وأكثر من هذا، أو الريح غدوها شهر ورواحها شهر، ومع ذلك فإن الصّبا سخّرت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم وكانت من جملة أجناده، ولهذا قال: نصرت بالصّبا، ومع ذلك فإن سليمان سأل ذلك فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِي} 38: 35، ونبينا صلّى الله عليه وسلم حباه الله تعالى بذلك من غير تعرض منه له، وأين مقام من يعطي حسب سؤاله، من مقام من تأتيه المنح الإلهية مخطوبا لها ومسئولا بها؟
وقد خص الله المصطفى صلّى الله عليه وسلم بأن جعل الرعب يسير بين يديه مسيرة شهر، وأين غدو الريح بسليمان شهرا من تقدم الرعب بين يدي المصطفى شهرا، وقد سخر الله تعالى لسليمان الجن، لكنها كانت تعتاص عليه حتى يصفدها ويعذبها بالأعمال الشاقة وغيرها، ونبينا صلّى الله عليه وسلم أتته الجن راغبة فيه، طائعة له، معظّمة لشأنه، مصدقة بما جاءه من ربه، مؤمنة به، متبعة له، ضارعة خاضعة، مستمدة مستمنحة منه زادها ومأكلها، فجعل لها كل روثة تصيبها تعود علفا لدوابها، وكل عظم يعود طعاما لها.
وسخرت له صلّى الله عليه وسلم عظماء الجن وأشرافها التسعة، الذين قال تعالى فيهم: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا من الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} 46: 29، وقال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ من الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا به وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا} 72: 1- 2، وأقبلت إليه صلّى الله عليه وسلم ليلة الجن الألوف منها مبايعين له على الصوم والصلاة والنصح للمسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على الله شططا.
فشملت بعثته ورسالته الإنس والجن، وهم لا يحصون عددا، وأين ما أعطيه سليمان من هذا، وما قدر ملكه في جنب هذا الأمر العظيم، وأين تصفيد سليمان الجن من أسر رسول الله صلّى الله عليه وسلم العفريت من الجن لما تفلّت عليه، وأين المقام السليماني من المقام المحمدي، فإن سليمان كانت تخدمه الجن، ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم كانت الملائكة المقربون أعوانه، يقاتلون أعداءه بين يديه، ويدفعون عنه من يريده بسوء، وقد قبض أبو أسيد على الغول لما خالفته إلى سيره بسوق نمرة، حتى علمته آية الكرسي، وقبض أيضا أبو أيوب الأنصاري على الغول، وأسر معاذ بن جبل رضي الله عنه جنّيّا من جن نصيبين، وصارع عمار بن ياسر رضي الله عنه الجن لما التقيا على الماء، ومع هذا فقد ضرب جبريل عليه السلام بجناحه لما توفي النجاشي بالحبشة الجبال، حتى قام المصطفى صلّى الله عليه وسلم هو وأصحابه فصلّى عليه وهو صلّى الله عليه وسلم ينظر إليه من المدينة.
وكذلك لما توفي معاوية بن معاوية، ضرب جبريل بجناحه، ورفع له صلّى الله عليه وسلم جنازة معاوية حتى نظر إليه وصلّى عليه، وأين تسخير سليمان عليه السلام الجن {يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ من مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ} 34: 13، من تسخير الله سبحانه جبريل الروح الأمين، الرسول الكريم، {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} 81: 20، لمحمد صلّى الله عليه وسلم حين نزل على قريش يقاتل يوم بدر، فكان عمل الجن المردة والقردة الكفرة الفسقة لسليمان في أمور الدنيا، وعمل الملائكة المقربين الكرام البررة لمحمد صلّى الله عليه وسلم من غير استقصاء، قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ من الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} 3: 124، وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ من الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 8: 9، ولم يؤيد الله تعالى نبيا قبل محمد صلّى الله عليه وسلم بالملائكة تقاتل معه كما قاتلت يوم بدر كفاحا كقتال الناس.
قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} 8: 12، فلما نزلت الملائكة يوم بدر للقتال، قال صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وهو معه في العريش: أبشر يا أبا بكر، أتاك الله بالنصر، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه... إلى غير ذلك مما قد أوردته بطرقه في أبوابه.
وقد كان سليمان عليه السلام يفهم كلام الطير كما في قصة الهدهد، ويفهم كلام النملة، قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} 27: 20، وقال تعالى: {قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ} 27: 18، وقال: {يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} 27: 16، وقد أعطى نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك بزيادات، فكلمته البهائم والسباع، وحنّ له الجذع، ورغا له البعير، وكلمته الشجر، وسبّح الحصا في كفه، وسلم عليه الحجر والشجر، وأقر الذئب بنبوته، ونطقت له ذراع الشاة المسمومة، وسخر الطير لطاعته، وشكت إليه الظبية، وكلمه الضّب، وقد أوردت ذلك كله بطرقه.
وأما يحيى بن زكريا عليهما السلام:
فإنه أوتي الحكم صبيا، وكان يبكي من غير ذنب، ويواصل الصيام، وقد أعطى الله نبينا صلّى الله عليه وسلم أفضل من هذا، فإن يحيى لم يكن في قوم يعبدون الأوثان والأصنام من دون الله، ولا كان في عصر الجاهلية، بل كان في بني إسرائيل أهل الكتاب، وبيت النبوة، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كان في عصر الجاهلية، ما جاءهم قبله من نذير، يعبدون الأوثان والأصنام والطواغيت، فأوتي من بينهم الفهم والحكم صبيا بين حزب الشيطان وعبدة الأوثان، فلم يرغب لهم في صنم قط، ولا شهد معهم عيدا، ولم يسمع منه كذب قط، وكانوا يعدونه صدوقا أمينا حليما رءوفا، وكان يواصل الأسبوع صوما ويقول: إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني، وكان يبكي حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وقد أثنى الله تعالى على يحيى فقال: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحِينَ} 3: 39، والحصور الّذي لا يأتي النساء، وذلك أن يحيى كان نبيا ولم يكن مبعوثا إلى قومه، وكان منفردا بمراعاة، ونبينا صلّى الله عليه وسلم كان رسولا إلى كافة الناس ليقودهم ويقربهم إلى الله تعالى، قولا وفعلا، فأقام الله تعالى به الأحوال المختلفة، والمقامات الغالبة المتفاوتة في تصرفاته، ليقتدي الخلق كلهم بأفعاله وأوصافه.
فاقتدى به الصديقون في حالاتهم، والشهداء في مراتبهم، والصالحون في اختلاف أحوالهم، ليأخذ العالي والداني والمتوسط من أفعاله قسطا وحظا، إذ النكاح من أعظم حظوظ النفس وأبلغ الشهوات، فأمر به صلّى الله عليه وسلم وحث عليه لما جبل الله تعالى عليه النفوس البشرية من توقان النفس وهيج الشهوة المطبوع عليها النفس.
وأباح ذلك ليتحصّنوا به من السفاح، فشاركوه صلّى الله عليه وسلم في ظاهره، وشملهم الاسم معه، وانفرد صلّى الله عليه وسلم عن مساواته معهم، فقال: تزوجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم، فإذا غلب عليه وعلى قلبه ما أفرده ألحق به من قوله: وجعلت قرة عيني في الصلاة، وتلطف صلّى الله عليه وسلم في مرضاتهن فقال لعائشة: ائذني لي أتعبد في هذه الليلة، فقالت: إني لأحب قربك، وهواك أحب إليّ.
فقام إلى مصلاه إلى الصباح راكعا وساجدا باكيا، وربما خرج إلى البقيع فتعبد فيه وزار أهله، وربما قام ليلة ثانية إلى الصباح يرددها، فكانت نسبته عن أحكام البشرية ودواعي النفس ممحوة عند انشقاق صدره، لما حشوه بالإيمان والحكمة الّذي وزن أمته فرجحهم، هذا مع ما أنزل الله تعالى من السكينة عليه وعلى قلبه المقدس صلّى الله عليه وسلم.
وأما عيسى عليه السلام:
فإن الله تعالى خصه بإرسال الروح الأمين إلى أمه {فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا} 19: 17، ليهب لها غلاما زكيا، فحملت به، وأنه نطق في المهد، وقد أعطى الله نبينا صلّى الله عليه وسلم ضروبا من هذه الآيات، فبشرت به أمه آمنة وهي حامل به، وظهرت لها الآيات عند وضعها كما تقدم ذكره، وقد قال تعالى عن عيسى: {وَرَحْمَةً مِنَّا} 19: 21.
ونبينا صلّى الله عليه وسلم وصفه الله بأعم الرحمة وأكملها، فقال: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} 21: 107، فمن صدقه وآمن به فاز برحمته في الدارين، ومن لم يصدقه أمن في حياته مما عوقب به المكذبون للرسل من الأمم من الخسف والمسخ والقذف، وأنقذ الله ببعثته من آمن من الضلال، وانتعشوا بالإيمان من الدمار، وأمنوا به من البوار، قال تعالى: {لَقَدْ من الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا من أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} 3: 164، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} 33: 45، فكان صلّى الله عليه وسلم رحمة مهداة. وقال تعالى عن عيسى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} 3: 48 وقد أوتي نبينا ما يجانس ذلك وأكثر منه وأفضل.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا من الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 15: 87، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} 16: 44 [9]، وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} 43: 44 يعني القرآن شرف لك ولهم، وقال: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 34: 28، ويقول تعالى للأنبياء: {وَما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ} [14: 4]، إلى غير ذلك من الآيات، وكان عيسى يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، وكان لنبينا صلّى الله عليه وسلم نظير ذلك.
فإن عكاشة انقطع سيفه يوم بدر، فدفع له رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضيبا من حطب، قال: قاتل بهذا، فعادل سيفا في يده شديد المتن أبيض الحديدة طويل القامة فقاتل به، حتى فتح الله على المسلمين، ثم لم يزل يشهد به المشاهد إلى أيام الردّة.
فالمعنى الّذي أمكن به نبينا أن تصير الخشبة حديدا يبقى على الأيام، هو المعنى الّذي خلق به عيسى من الطين كهيئة الطير، بل ذلك أعظم وأبدع، فإنه لم يعهد قط أن الحديد يخرج من الخشب، وقد عهد أن الحيوان يتكون من الطين.
وأيضا فإن هذا الحديد القاطع الّذي تولد من الخشب بقي أعواما كثيرة، ولم ينقل أن الطير الّذي خلقه عيسى من الطين بقي لذلك، ومع هذا فقد سمع التسبيح من الحجارة الصم في يد نبينا صلّى الله عليه وسلم، وشهدت الأشجار والأحجار له بالنّبوّة، واجتمعت الأشجار والتزمت ثم افترقت عن أمره لها، وكل هذا يجانس إحياء الموتى، وطيران الطيور من الطين كهيئة الطير.
وقد كان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص، ولنبينا صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك، فقد ردّ عين قتادة بعد ما ندرت وسالت على خده، ونفث في عيني رجل قد ابيضتا فأبصر، وبصق في عين رفاعة بن رافع وقد فقئت عينه بسهم فلم يؤده منها شيء، وتفل في عين على رضي الله عنه وهو أرمد فبرئ من ساعته وما اشتكى عينيه بعد، ومسح صلّى الله عليه وسلم بيده على عدة من المصابين والمرضى فبرءوا.
وقد كان عيسى يحي الموتى بإذن الله، ولنبينا من هذا المعنى ما هو أعجب وأغرب، فقد أحيا شاة جابر، وأحيا الله تعالى لامرأة ولدها ببركته، وكلمته صلّى الله عليه وسلم ذراع الشاة المسمومة، وتكليم الذراع أغرب، لأن حياة العضو المبان وتكليمه أعجب من حياة الذات الكاملة، لأن الحياة عهدت منها، وقد تكلم جماعة بعد الموت بخلاف العضو من الحيوان، لاسيما بعد طبخه بالنار.
وقد كان عيسى يخبر بالغيوب، وينبئ قومه بما يأكلون في بيوتهم ويدخرونه، ونبينا صلّى الله عليه وسلم له في هذا المقام الّذي لا فوقه: فإن عيسى إنما كان يخبر بما كان من وراء جدار، ونبينا كان يخبر بما كان منه بمسيرة شهر وأكثر، كإخباره بموت النجاشي، وبقتل زيد وجعفر وابن رواحة في مؤتة، وكان يأتيه السائل ليسأله عن شيء فيقول له: إن شئت أخبرتك بما جئت تسأل عنه أو تسأل فأخبرك؟ فيقول:
لا، بل أخبرني فيخبره بما في نفسه. وأخبر عمير بن وهب الجمحي بما تواطأ عليه هو وصفوان بن أمية لما قعدا بمكة في الحجر في الفتك به صلّى الله عليه وسلم بعد مصاب أهل بدر.
وأخبر عمه العباس لما أسر ببدر وأراد أن يفاديه فقال: ليس لي مال، فقال: أين مالك الّذي أودعته أم الفضل لما أردت الخروج وعهدت إليها فيه؟ وبعث عليا والزبير إلى سارة، وقد حملت كتاب حاطب إلى أهل مكة فأخرجاه منها، وقال لعبد الله بن أنيس لما بعثه إلى الهذلي بوادي عرفة: إذا رأيته هبته، وأطلعه الله في منصرفه من تبوك على موضع ناقته وقد ضلت. وأخبر بموت كسرى في وقت قتله، وأخبر صلّى الله عليه وسلم بأشياء قبل كونها فوقعت كما قال، وبشّر بما يجري على أمته بعد موته، فكان مثل ما وعد به، فمما أخبر بكونه: قول الله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ في شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} 2: 137، فكفاه الله ووفاه ما وعده من نصره، وأباد المستهزءين.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ} 3: 12، فكان كما وعده الله، غلبوا وقتلوا، ويحشرون إلى النار.
وقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} 3: 139، فكان كما وعده.
وقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ} [8: 7]، فهزم الله المشركين يوم بدر.
وقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ الله من يَنْصُرُهُ} [22: 40]، وقواه بلا مال ولا عشيرة، حتى ملكت أمته المشرق والمغرب.
وقوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [22: 59]، فدخلوا مكة آمنين.
وقوله تعالى: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ} 24: 55، فكان كذلك.
وقوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الْأَرْضِ} 30: 1- 3 فلعلمه بكونه ووقوعه، حدّد الوقت فقال: {وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ} 30: 3- 4، وأكده بقوله: {وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} 30: 6.
وقوله تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ} 110: 1، يعني فتح مكة، يبشر بفتح مكة لعظم قدرها مثل كونه، وبدخول الناس في دينه أفواجا، فكان كذلك.
وقدمت وفود العرب بإسلام قومهم وانقيادهم لدينه، فلم يمت صلّى الله عليه وسلم حتى طبق الإسلام اليمن إلى شجر العمان وأقصى نجد العراق، بعد تمكنه بالحجاز، وبسط رواقه بالغور مجرى حكم الرسول على أهل مكة والطائف وعمان والبحرين واليمن واليمامة.
وقوله تعالى: {وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ الله بِها} [48: 21]، يعني: العجم وفارس، لقوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها} 33: 27، يعني فارس والروم، وكان كذلك ملكها الله أمته صلّى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [48: 16]، هم أهل فارس والروم، وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة فقاتلهم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما.
ولم يختلف أحد من أهل القبلة في أن المخلفين من الأعراب لم يدعوا إلى شيء من الحروب بعد توليهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، حتى دعوا في زمن أبي بكر إلى قتال أصحاب مسيلمة، ووعد صلّى الله عليه وسلم بفتح بيضاء المدائن وأخذ كنوز كسرى، وقال لعديّ بن حاتم: لا يمنعنك ما ترى بأصحابي من الخصاصة، فليوشكن أن تخرج الظعينة من الحيرة بغير جوار، فأبصر ذلك عدي بعينه. وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأم حبيبة، وأسلم أبوها أبو سفيان، فزالت العداوة وآلت إلى مودة وصلة، وأطلعه الله تعالى على ما أكنه في الصدور، وأضمر به القلوب، فقال تعالى: {وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} 5: 13.
وقال: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} 2: 76، يعني من بعث محمد صلّى الله عليه وسلم {لِيُحَاجُّوكُمْ به عِنْدَ رَبِّكُمْ} 2: 76، فأعلم الله نبيه بذلك، وقال: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} 2: 77.
وقال تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا} 3: 188، وذلك أن اليهود كتموا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما سألهم عنه، وأخبروه بغير الحق، وأوهموه صدقهم ليستحمدوه بذلك، فأعلمه الله بخبرهم.
وقال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا} 33: 18، وذلك أن اليهود قالوا: لإخوانهم المنافقين في السير يوم الخندق: على ما تقتلون أنفسكم؟ هلم إلينا، ما ترجون من محمد؟ والله ما تجدون عنده خيرا.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ من بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الْأَمْرِ وَالله يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ} 47: 25- 26 ذلك بأنهم قالوا لبني قريظة والنضير:
سنطيعكم في بعض الأمر، فأخرج الله أسرارهم لنبيه. ونظائر ذلك مما أطلع الله عليه نبيه مما أسرّه اليهود والمنافقون في القرآن كثير.
وهذا مما لا يجوز أن يكون وقوعه بطريق الاتفاق، ولا هو مما لا تصل قدر البشر إلى معرفته، فلم يبق إلا أن يكون أطلع الله نبيه عليه، مما أسره اليهود والمنافقون وأعلمه به، وأين إعلام المسيح أصحابه بما يأكلون، وإخباره لهم بما يدخرون، من إعلام الرسول صلّى الله عليه وسلم هذه الحوادث العظيمة، والغيوب البديعة قبل كونها؟
قال الحافظ أبو نعيم: ووجه الدلالة في إخباره صلّى الله عليه وسلم بالغيوب على صدق نبوته، وثبوت رسالته، أن مولده ومنشأه في قوم أميين، لم يتعاظموا علما بالنجوم، ولا حكما بالطوالع والكواكب، حسب ما يستنبطه المنجمون، ولا عرف هو بطلب شيء من ذلك في بلده ولا في أسفاره، وكانت الكهانة بطلت بمبعثه، ولم يكن له علم بالغيوب، إلا بوحي يأتيه به جبريل عن الله تعالى.
ولو كان في قومه وبلده المنجمون والمستنبطون وهو لم يخالطهم، ولا عرف بالأخذ عنهم، وأخبر ما أخبر به من الغيوب لكان ذلك دلالة على نبوته ومعجزة له إذا أخفى ذلك على عشيرته وخلطائه لمفارقة تلك العادات، وليس بجائز أن يكون إخباره مأخوذا عن الشياطين مع ما جاء به من سبّهم ولعنهم، فثبت بهذا أن الإخبار فيما أخبر به من الغيوب عن الله تعالى.
وأما ما اعترض به بعض الملاحدة والكفرة بأنه لم يأت بآية قاطعة محتجا بقوله تعالى: {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} 17: 59، وما أشبهه من الآي، فكيف وقد ورد القرآن بقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 54: 1، وقوله: {أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا} 72: 9، وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ من مِثْلِهِ} 2: 23 ثم قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} 2: 24 الآية، وقال لليهود: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} 62: 6- 7.
وقال: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ} 24: 55 الآية، وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ من الْمَلائِكَةِ} 8: 9، وقال: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ} 26: 197، وقال: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما في الصُّحُفِ الْأُولى} 20: 133، وقال: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ} 30: 1- 4، وما في معناه من الآي.
وإنما منعوا الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي صلّى الله عليه وسلم بأن تأتهم الملائكة عيانا فيقولون: {لَوْما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ من الصَّادِقِينَ} 15: 7، فأنزل الله تعالى: {ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} 15: 8، وقولهم: {لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذير أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها} 25: 8، وما في معناه.
وأنزل الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ في ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 29: 51، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يعرفهم إنما الآيات عند الله، ولا يرسلها إلا بما يعلم فيه الصلاح، وأن شهوات الكفار والجهال لا نهاية لها، وفيما أنزله من الكتاب المبني على الغيوب كفاية مع ما كان الله تعالى يظهره عليه من الآيات سفرا وحضرا.
واستفاضت الأخبار به بنقل الأمناء العدول من جهات كثيرة مختلفة، يستحيل فيها على مضي السنين وتطاول المدة، واختلاف همم النقلة ودواعيهم التواطؤ عليها، فحصلت بحمد الله الدلائل خاصا وعاما.
والقرآن هو الحجة الباقية بقاء الدهر، التي عجزت العرب مع خصاصتهم وبلاغتهم عن معارضته، مع ما يرجعون إليه من العقول الراجحة، والافهام الكاملة، فليس يخلو تركهم معارضته من أحد أمرين: إما عجزا عنها أو قدرة عليها، فإن كان عجزا فهو ما يقوله، وإن كانوا قادرين على معارضته فلم يعارضوا لصرفة، صرفهم الله عنها، فهي أيضا معجزة، كما لو أن مدعيا ادّعى النبوّة فقال: آيتي أنكم لو أردتم الكلام يومكم هذا لم يمكنكم، فلم يمكنهم الكلام، كان ذلك معجزة له، وآية للصرف التي صرفهم الله عن النطق والكلام، وقد كان أمره صلّى الله عليه وسلم في الانتفاء عن علم الغيب، وبراءته من ادعائه ظاهرا منتشرا، وأنه لا يعلم منه إلا ما علمه الله وأنبأه.
وذكر من حديث مسدد قال: أخبرنا بشر بن المفضل، أخبرنا خالد بن ذكوان، حدّثتنا الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدخل عليّ صبيحة بني بي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلن جويرات لنا يضربن بالدف من أمامي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في الغد؟ فقال: دعي هذه وقولي الّذي كنت تقولين.
ومن حديث إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ بناس من الأنصار في عرس لهن يتغنين:
وأهدى لها كبشا تبجح في المربد ** وزوجك في النادي يعلم ما في غد

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يعلم ما في غد إلا الله عزّ وجلّ، فكانوا أنصاره وأعوانه، فمدحهم الله بذلك في كتابه، فقد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عدة حواريين، منهم الزبير. وقال: لكل نبي حواري، وحواري الزبير، على أن حواري عيسى كان مبلغهم في طاعته أن قالوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً من السَّماءِ} 5: 112.
وكان لحواري رسول الله صلّى الله عليه وسلم في خلوص الطاعة وصحة النية وحسن المؤازرة، ومجاهدة النفوس في نصر نبيهم، وتبجيلهم وتعظيمهم له، ومعرفتهم بجلالته ما تقدم ذكره، وسيأتي إن شاء الله، لأن الله تعالى امتحن قلوبهم للتقوى، فكانوا لا يحدّون النظر إليه إعظاما له، ولا يرفعون أصواتهم عليه إجلالا له، ولا يتنخم نخامة إلا ابتدروها يتمسحون بها، ولا سقطت شعرة إلا تنافسوا فيها، حتى إن معاوية أوصى أن يدفن معه شعر من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشرب عبد الله بن الزبير محجمة من دمه، وكان إذا حضر من جفاة الأعراب من لا يوقره استأذنوه في قتله، وقد ذكرت ذلك كله بطرقه.
وقد كان عيسى عليه السلام كثير السياحة، جوابا للقفار والبراري فقد كان لنبينا صلّى الله عليه وسلم من ذلك ما هو أعظم وأفخم، فإنه ساح في الأرض بأصحابه مجاهدا أعداء الله، فاستنقذ في عشر سنين ما لا يعدّ من حاضر وباد، وافتتح القبائل الكثيرة، فأين سياحة عيسى ليخلو بعبادة ربه، من سياحة محمد المبعوث بالسيف المصلت على أعداء الله لإقامة دين الله؟ فكان لا يداري لغيره بالكلام، ويجاهد في الله ولا ينام إلا على دم، ولا يستقر إلا متجهزا لقتال الأعداء، أو باعثا إليهم سرية في إقامة الدين وإعلاء الدعوة وإبلاغ الرسالة صلّى الله عليه وسلم.
وقد كان عيسى زاهدا يتقنّع من دنياه باليسير، ويرضيه منها القليل، فخرج من الدنيا كفافا لا له ولا عليه، وقد كان لنبينا من مقام الزهد ما لا فوقه، فإنه كانت له ثلاث عشرة زوجة سوى سراريه، فما رفعت مائدته قط وعليها طعام، ولا شبع من خبزين ثلاث ليال متتابعة، وكان يربط الحجر على بطنه.
وكان لباسه الصوف، وفراشه إهاب شاة، ووسادته من أدم، حشوها ليف، فيأتي عليه الشهران والثلاثة فلا توقد في بيته نار لمصباح، وتوفي ودرعه مرهونة، ولم يترك صفراء ولا بيضاء، هذا وقد عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض، ووطئت له البلاد، ومنح الغنائم الكثيرة، فقسمها حتى أنه فرّق في يوم واحد ثلاثمائة ألف، وأعطى جماعة كل رجل مائتين من الإبل، وأعطى ما بين جبلين من الغنم، وكان يأتيه السائل فيقول: والّذي بعثني بالحق ما أمس في آل محمد صاع من شعير ولا من تمر، وكان يقول: أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت تضرعت، وإذا شبعت حمدت. وقد كان عيسى يتقلب في حياطة الله له، ومدافعته عنه المكر والغوائل بحيث كان يمسي ويصبح آمنا ساكن النفس، قال تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ} 5: 110 الآية.
وكذلك نبينا عصمه الله، فقال: {وَالله يَعْصِمُكَ من النَّاسِ} 5: 67، فكان يبرز وحده في سواد الليل وبالأسحار إلى البقيع والأودية، ومعه اليهود أعداؤه المجاهرون بعداوته في بلد واحد، فلم يصلوا منه إلى أي شيء، وهو يقتلهم ويسبي ذراريهم ونساءهم.
ودفع الله تعالى عنه كيد قريش وهو بمكة، وأنبت على الغار له شجرة وأقام الحمام فعشش عليه، والعنكبوت فنسج على بابه، وقد رفع الله عيسى إلى السماء، ولنبينا صلّى الله عليه وسلم من ذلك أعلى مقام فإنه عرض عليه عند وفاته البقاء فاختار ما عند الله وقربه تعالى على البقاء في الدنيا، فقبضه الله تعالى ورفع روحه، ولو اختار البقاء، لكان كعيسى والخضر وإلياس عند الله في سماواته، وفي عالمه في أرضه، لأن عيسى عليه السلام مقيم في السماء والخضر وإلياس يتجولان في السموات والأرض على ما قيل.
ومع هذا فإن جماعة من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم رفعوا كما رفع المسيح، وذلك أعجب، فرفع الله عامر بن فهيرة والناس ينظرون، ودفن العلاء بن الحضرميّ لما مات في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بأرض اليمن في أرض العدو، فخافوا أن ينبش قبره ويستخرج، فذهبوا يطلبونه لينقل من أرض العدو في يومهم الّذي دفنوه فيه، فلم يقدروا عليه ولا دروا أين ذهب به.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أخبرنا جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن الزهري قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيب وأنا أتخوف العين، فرقيت فيها فحللت خبيبا، فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد، ثم التفت فلم أر خبيبا، كأنما ابتلعته الأرض، فما رئي خبيب إلى الساعة، قال أبو بكر بن أبي شيبة: وقد كان جعفر بن عون قال: عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه عن جده.
أمّا القرآن الكريم:
فقال ابن الأنباري: سمي قرآنا لأنه جمع السور وضمّها من قوله: {فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 75: 18، أي إذا ألّفنا منه شيئا فاعمل به.
وقيل: سمي قرآنا لأن القارئ يلقنه من فيه من قولهم: ما قرأت هذه الناقة علي قط، أي ما رمت. وقال أبو زيد: قرئت القرآن فهو مقرئ. وقال اللحياني: قرأت القرآن قرءا مثل قرعا، وقراءة وقرآنا وهو الاسم.
وقال ابن دريد: من قال قران بلا همز جعله من قريت الشيء بعضه إلى بعض، فالقرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم ووصفان له لأنه يقرأ ويكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بوصف النكرة فهو الوصف، وإن شئت قلت: هما يجريان مجرى واحد كالعباس وابن العباس، فهو في الحالين اسم العلم.
فالقرآن الكريم حجة على الملحدين، وبيان للموحدين، قائم بالحلال المنزل، والحرام المفصل، وفصل بين الحق والباطل، يرجع إليه العالم والجاهل، وإمام تقام به الفروض والنوافل، وسراج لا يخبو ضياؤه، ومصباح لا يخمد ذكاؤه، وشهاب لا يطفأ نوره، وبحر لا يدرك غوره، ومعجز لا يزال يظفر رموزه، ومعقل يمنع من الهلكة والبوار، ومرشد يدل على طريق الجنة والنار، وهاد يدل على المكارم، وزاجر يصد عن المحارم.
ظاهره أنيق، وباطنه عميق، وهو حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وصراطه المستقيم، وحجته الكبرى، ومحجته الوسطى، وهو الواضح سبيله، الراشد دليله، الّذي من استضاء بصباحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنه زلّ وهوى.
وفضائل القرآن لا تستقصي في ألف قرآن، حجة الله ووعده ووعيده، به يعلم الجاهل، ويعمل به العامل، وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي، بشير الثواب ونذير العقاب، وشفاء الصدور وجلاء الأمور، ومن فضائله أنه يقرأ دائما ويكتب، ويمل ولا يمل، يتجدد على الابتذال، ويزكو على الإنفاق.
والقرآن حجة الله على خلقه لما اشتمل عليه من حجج التوحيد والنبوات، وغير ذلك، وهو برهان لمحمد صلّى الله عليه وسلم، على رسالته، إذ القرآن معجز، فهو برهان على صدق من جاء به، وهو محمد صلّى الله عليه وسلم، فالقرآن من حيث هو حجة، حجة للَّه ولرسوله، يسمى برهانا، ومن حيث هو مرشد الخلق إلى مصالح معاشهم ومعادهم، كاشف عنهم العمى، قائد لهم إلى الهدى يسمى نورا.
والقرآن أعظم معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأشرفها وأوضحها دلالة، لأن المعجزات تقع في الغالب مغايرة للوحي المدعي، وهو الخارق المعجز، فدلالته في عينه، ولا يفتقر إلى دليل أجنبي عنه كسائر الخوارق مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه.
واعلم أن المعجزات على قسمين:
أحدهما: ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلّى الله عليه وسلم.
والثاني: ما تواردت الأخبار بصحته وحصوله، واستفاضت بثبوته ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة، ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقا كثيرا وجما غفيرا، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا، وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لأن الأمة لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف، والسلف عن سلفه، إلى أن يتصل ذلك برسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلة والمعجزات.
والرسول صلّى الله عليه وسلم أخذه عن جبريل عليه السلام، عن رب العزة جلّت قدرته، فنقل القرآن الكريم في الأصل رسولان كريمان معصومان من الزيادة والنقصان، ونقله إلينا بعدهما أهل التواتر، الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه ويسمعونه لكثرة العدد، فلذلك وقع لنا العلم الضروريّ بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن وجود ظهور القرآن على يديه، وتحديه به، ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان التي لم يرها، كالبصرة والعراق وخراسان والهند، ونحو ذلك من الأخبار الكثيرة المتواترة.
ولنورد هنا وجه إعجاز القرآن، وكيفية نزوله، والمدة التي أنزل فيها، وجمعه، والأحرف التي أنزل عليها، فالقرآن معجزة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومعجزة كل نبي انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل والتغيير، كالتوراة والإنجيل. اهـ.